فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (52):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فكان يوما في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة النجم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى»، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها نصيبا فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيما، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش. وقيل: أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك. وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه، وشدة على من أسلم.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا، {وَلا نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا {إِلا إِذَا تَمَنَّى} قال بعضهم: أي: أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي مراده.
وعن ابن عباس قال: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه، فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تمنى} أي: تلا وقرأ كتاب الله تعالى. {ألقى الشيطان في أمنيته} أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

واختلفوا في أنه كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم: كان يقرأ في الصلاة. وقال قوم: كان يقرأ في غير الصلاة. فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوما من الغلط في أصل الدين، وقال جل ذكره في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] يعني إبليس؟
قيل: قد اختلف الناس في الجواب عنه، فقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته، فظن المشركون أن الرسول قرأه.
وقال قتادة: أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر.
والأكثرون قالوا: جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه.
وقيل: إن شيطانا يقال له أبيض عمل هذا العمل، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء.

.تفسير الآيات (53- 54):

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}
{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي: يبطله ويذهبه، {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} فيثبتها، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: محنة وبلية، شك ونفاق، {وَالْقَاسِيَةِ} يعني الجافية، {قُلُوبُهُمْ} عن قبول الحق وهم المشركون، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا، وظنوا أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} المشركين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: في خلاف شديد. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} التوحيد والقرآن. وقال السدي: التصديق بنسخ الله تعالى، {أَنَّهُ} يعني: أن الذي أحكم الله من آيات القرآن هو {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أي: يعتقدوا أنه من الله، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: فتسكن إليه قلوبهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: طريق قويم هو الإسلام.

.تفسير الآيات (55- 58):

{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)}
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي: في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها. وقال ابن جريج: {منه} أي من القرآن. وقيل: من الدين، وهو الصراط المستقيم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} يعني: القيامة. وقيل: الموت، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال الضحاك وعكرمة: عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة.
والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر، لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة. وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير، كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، سحاب ولا مطر، والعقم في اللغة: المنع، يقال: رجل عقيم إذا منع من الولد. وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. وقال ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء. {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة، {لِلَّهِ} وحده من غير منازع، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ثم بين الحكم، فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه، {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} وهم كذلك، قرأ ابن عامر {قتلوا} بالتشديد {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} والرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدا هو رزق الجنة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} قيل: هو قوله: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169].

.تفسير الآيات (59- 63):

{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ} لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بنياتهم، {حَلِيمٌ} عنهم. {ذَلِكَ} أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم، {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} جازى الظالم بمثل ظلمه. قال الحسن: يعني قاتل المشركين كما قاتلوه، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي: ظلم بإخراجه من منزله يعني: ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم، نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم قال الله تعالى: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} والعقاب الأول بمعنى الجزاء، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم. {ذَلِكَ} أي: ذلك النصر {بِأَنَّ اللَّهَ} القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي وحفص: بالياء، وقرأ الآخرون: بالتاء، يعني المشركين، {مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} العالي على كل شيء، {الْكَبِيرُ} العظيم الذي كل شيء دونه. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً} بالنبات، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض، {خَبِيرٌ} بما في قلوب العباد واستخراج النبات من الأرض، إذا تأخر المطر عنهم.

.تفسير الآيات (64- 67):

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} عبيدا وملكا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} عن عباده، {الْحَمِيدُ} في أفعاله. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ} أي: وسخر لكم الفلك، {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} وقيل: {ما في الأرض}: الدواب تركب في البر، و{الفلك} تركب في البحر، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ} يعني: لكيلا تسقط على الأرض، {إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي: أنشأكم ولم تكونوا شيئا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم البعث للثواب والعقاب، {إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ} لنعم الله. قوله عز وجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} قال ابن عباس: يعني شريعة هم عاملون بها. وروي عنه أنه قال: عيدا قال قتادة ومجاهد: موضع قربان يذبحون فيه. وقيل: موضع عبادة. وقيل: مألفا يألفونه.
والمنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد لعمل خير أو شر، ومنه مناسك الحج لتردد الناس إلى أماكن أعمال الحج.
{فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ} يعني في أمر الذبائح. نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله.
قال الزجاج: معنى قوله: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ} أي: لا تنازعهم أنت، كما يقال: لا يخاصمك فلان، أي: لا تخاصمه، وهذا جائز فيما يكون بين الإثنين، ولا يجوز: لا يضربنك فلان، وأنت تريد: لا تضربه، وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى الإيمان بربك، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}.

.تفسير الآيات (68- 72):

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}. {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. والاختلاف: ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ} كله، {فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ، {إِنَّ ذَلِكَ} يعني: علمه لجميع ذلك، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة، {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} يعني أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} للمشركين، {مِنْ نَصِيرٍ} مانع يمنعهم من عذاب الله. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أي: يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء. وقيل: يبطشون، {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ. يقال: سطا عليه وسطا به، إذا تناوله بالبطش والعنف، وأصل السطو: القهر.
{قُلْ} يا محمد، {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} أي: بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون، {النَّارُ} أي: هي النار، {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

.تفسير الآيات (73- 75):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} معنى ضرب: جعل، كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمة، أي جعل ذلك عليهم. ومعنى الآية: جعل لي شبه، وشبه بي الأوثان، أي: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي: فاستمعوا حالها وصفتها. ثم بين ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} واحدا في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه. والذباب: واحد وجمعه القليل: أذبة، والكثير: ذبان، مثل غراب وأغربة، وغربان، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي: خلقه، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه.
وقال السدي: كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه.
وقال ابن زيد: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فذلك قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} أي: وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه، {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قال ابن عباس: {الطالب}: الذباب يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم، {والمطلوب}: الصنم يطلب الذباب منه السلب. وقيل: على العكس: {الطالب}: الصنم {والمطلوب}: الذباب. وقال الضحاك: {الطالب}: العابد {والمطلوب}: المعبود. {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته إن أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {اللَّهُ يَصْطَفِي} يعني يختار {مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم، {وَمِنَ النَّاسِ} أي: يختار من الناس رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، نزلت حين قال المشركون: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي: سميع لقولهم، بصير بمن يختاره لرسالته.